فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَصْلٌ:
وَقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
قال طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ تَفَرُّقُهُمْ فِي مُحَمَّدٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ جَعَلَ تَفَرُّقَهُمْ إيمَانَ بَعْضِهِمْ وَكُفْرَ بَعْضٍ.
قال البغوي: ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أَيْ الْبَيَانُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
قال الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ مُجْتَمَعِينَ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ. فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِي أمرهِ وَاخْتَلَفُوا. فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمْ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ طَائِفَةٌ فِي قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} قال أَبُو الْفَرَجِ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا اخْتَلَفُوا فِي أمر مُحَمَّدٍ لَمْ يَزَالُوا بِهِ مُصَدِّقِينَ حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ يَعْنِي القرآن. وَرُوِيَ عَنْهُ: حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ يَعْنِي مُحَمَّدًا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعِلْمُ هُنَا عِبَارَةً عَنْ الْمَعْلُومِ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَصْدِيقِهِ فَكَفَرَ بِهِ أَكْثَرُهُمْ بَغْيًا وَحَسَدًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى تَصْدِيقِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمُتَفَرِّقِينَ كُلَّهُمْ كُفَّارًا.
قال ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ ذَكَرَ تعالى مَذَمَّةَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي أمر مُحَمَّدٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ رَأَوْا الْآيَاتِ الْوَاضِحَةِ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِفَتِهِ. فَلَمَّا جَاءَ مِنْ الْعَرَبِ حَسَدُوهُ. وَكَذَلِكَ قال الثَّعْلَبِيُّ: مَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي أمر مُحَمَّدٍ فَكَذَّبُوهُ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ الْبَيَانُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ قال الْعُلَمَاءُ: مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إلَى قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} حُكْمُهَا فِيمَنْ آمَنُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ {وَمَا تَفَرَّقَ} حُكْمُهُ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قال أَبُو الْفَرَجِ.
قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يَعْنِي مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ.
{إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أحدهَا أَنَّهُ مُحَمَّدٌ وَالْمَعْنَى لَمْ يَزَالُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ حَتَّى بُعِثَ قالهُ الْأَكْثَرُونَ؛
وَالثَّانِي: القرآن قالهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالثَّالِثُ: مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ بَيَانِ نُبُوَّتِهِ ذَكَرَهُ الماوردي.
قُلْت: هَذَا هُوَ الَّذِي قَطَعَ بِهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّعْلَبِيُّ والبغوي وَغَيْرُهُمَا سو اه. وَأَبُو الْعَالِيَةِ إنَّمَا قال: الْكِتَابُ لَمْ يَقُلْ: القرآن. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} قال: قال أَبُو الْعَالِيَةِ: الْكِتَابُ. وَمُرَادُ أَبِي الْعَالِيَةِ جِنْسُ الْكِتَابِ. فَيَتَنَاوَلُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ كَمَا قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ القرآن وَقال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} ثُمَّ قال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فهدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَرَوَاهُ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}. وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} قال أَنْزَلَ الْكِتَابَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ.
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} يَعْنِي بَنِي إسْرَائِيلَ. أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} يَقول بَغْيا علي الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا أَيُّهُمْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْمَهَابَةُ فِي النَّاسِ فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَضَرَبَ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ {فهدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} يَقول: فَهَدَاهُمْ اللَّهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ أَقَامُوا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. وَأَقَامُوا عَلَى الْأمر الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ وَاعْتَزَلُوا الِاخْتِلَافَ. فَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَآلِ فِرْعَوْنَ أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ.
قُلْت: الِاخْتِلَافُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَانِ. أحدهُمَا يَذُمُّ فِيهِ الْمُخْتَلِفِينَ كُلَّهُمْ كَقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وَقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} وَالثَّانِي يَمْدَحُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَذُمُّ الْكَافِرِينَ كَقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتتلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتتلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وَقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} إلَى قوله: {إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي ذَمَّهُ مِنْ تَفَرُّقِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاخْتِلَافِهِمْ ذَمَّ فِيهِ الْجَمِيعَ وَنَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وَقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ طَائِفَةٌ بِبَعْضِ حَقٍّ وَتَكْفُرَ بِمَا عِنْدَ الْأُخْرَى مِنْ الْحَقِّ وَتَزِيدَ فِي الْحَقِّ بَاطِلًا كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ نَقول: مَنْ قال إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا تَفَرَّقُوا فِي مُحَمَّدٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا بُعِثَ إرَادَةَ إيمَانِ بَعْضِهِمْ وَكُفْرَ بَعْضِهِمْ كَمَا قالهُ طَائِفَةٌ فَالْمَذْمُومُ هُنَا مَنْ كَفَرَ لَا مَنْ آمَنَ. فَلَا يُذَمُّ كُلُّ الْمُخْتَلِفِينَ وَلَكِنْ يُذَمُّ مَنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ رَسُولٌ فَلَمَّا جَاءَ كَفَرَ بِهِ حَسَدًا أَوْ بَغْيًا كَمَا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}. وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّفَرُّقِ فِيهِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَتَفَرَّقَتْ أَقْوَالُهُمْ فِيهِ فَلَيْسَ الْأمر كَذَلِكَ. وَقَدْ بَيَّنَ القرآن فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَاخْتِلَافُ هَؤُلَاءِ وَتَفَرُّقُهُمْ فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة البَرِيَّة (البينة):
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}
قوله: {مِنْ أَهْلِ الكتاب}: متعلق بمحذوفٍ، لأنه حالٌ مِنْ فاعل {كفروا}.
قوله: {والمشركين}: العامَّةُ على قراءة: {المشركين} بالياء عطفًا على {أهل} قَسَّمَ الكافرين إلى صِنْفَيْن: أهلِ كتابٍ ومشركين. وقرئ: {والمشركون} بالواو نَسَقًا على {الذين كفروا}.
قوله: {مُنفَكِّينَ} خبرُ يكون. ومُنْفَكِّينَ اسمُ فاعلٍ مِنْ انْفَكَّ. وهي هنا التامَّةُ، فلذلك لم يَحْتَجْ إلى خبرٍ. وزعم بعضُهم أنها هنا ناقصةٌ وأنَّ الخبرَ مقدرٌ تقديره: منفكِّين عارفين أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: وحَذْفُ خبرِ كان وأخواتِها لا يجوزُ اقتصارًا ولا اختصارًا، وجعلوا قوله:
4612-يَبْغي جِوارَكِ حينَ ليسَ مُجِيرُ

أي: في الدنيا ضرورةً. قلت: وَجْهُ مَنْ منع ذلك أنه قال: صار الخبرُ مطلوبًا من جهتَيْن: مِنْ جهة كونِه مُخْبَرًا به فهو أحد جُزْأي الإِسناد، ومِنْ حيث كونُه منصوبًا بالفعلِ. وهذا مُنْتَقَضٌ بمفعولَيْ (ظنَّ) فإنَّ كلًا منهما فيه المعنيان المذكوران، ومع ذلك يُحْذَ‍فان- أو أحدهما- اختصارًا، وأمَّا الاقْتصارُ ففيه خِلافٌ وتفصيلٌ مر‍َّ تفصيلُه في غضونِ هذا التصنيفِ.
قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ}: متعلقةٌ بـ: {لم يكنْ} أو بـ: {مُنْفَكِّين}.
{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)}
قوله: {رَسُولٌ}: العامَّةُ على رفعِه بدلًا من {البيِّنة}: إمَّا بدلَ اشتمالٍ، وإمَّا كلٍ مِنْ كل على سبيلِ المبالغة، جَعَلَ الرسولَ نفسَ البيِّنة، أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: بَيِّنَةُ رسولٍ. ويجوزُ رَفْعُه على خبرِ ابتداء مضمرٍ، أي: هي رسولٌ.
وقرأ عبد الله وأُبَيّ {رسولًا} على الحالِ من البيِّنة. والكلامُ فيها على ما تقدَّم من المبالغة أو حذف المضافِ.
قوله: {مِّنَ الله} يجوزُ تعلقه بنفس {رسولٌ} أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ: {رسول} وجَوَّز أبو البقاء وجهًا ثالثًا وهو: أَنْ يكونَ حالًا مِنْ {صُحُفًا} والتقدير: يتلُو صُحُفًا مطهَّرة منزَّلةً مِنْ الله، يعني كانت في الأصل صفةً للنكرة فلَّما تقدَّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالًا.
قوله: {يَتْلُو}: يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لـ: {رسول}، وأَنْ يكونَ حالًا مِنْ الضمير في الجارِّ قبلَه إذا جَعَلْتَه صفةً لـ: {رسول}.
{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}
قوله: {فِيهَا كُتُبٌ}: يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً صفةً لـ: {صُحُفًا}، أو حالًا مِنْ ضمير {مُطَهَّرَة} وأَنْ يكونَ الوصفُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فقط، و{كُتُبٌ} فاعلٌ به، وهو الأحسن.
{وَمَا أمروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}: العامَّةُ على كَسْرِ اللامِ اسمَ فاعلٍ، وانتصب به {الدّينَ} والحسن بفتحِها على معنى: أنهم يُخْلِصون هم أنفسهم في نياتهم، وانتصب {الدينَ} على أحد وجهَيْن: إمَّا إسقاطِ الخافضِ، أي: في الدين، وإمَّا على المصدر من معنى: ليَعْبُدوا، كأنه قيل: ليَدينوا الدينَ، أو ليعبدوا العبادةَ، فالتجوُّز: إمَّا من الفعلِ، وإمَّا في المصدر، وانتصابُ {مُخْلِصِين} على الحال مِنْ فاعل {يعبدون}.
قوله: {حُنَفَاءَ} حالٌ ثانيةٌ أو حال من الحالِ قبلَها، أي: من الضمير المستكنِّ فيها. وقوله: {وَمَآ أمروا}، أي: وما أمروا بما أمروا به إلاَّ لكذا وقرأ عبد الله {وما أمروا إلاَّ أَنْ يَعْبُدوا} أي: بأَنْ يَعْبدوا. وتحريرُ مثلِها في قوله: {وَأمرنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الآية: 71] في الأنعام.
وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أي: الأمَّةُ أو المِلَّةُ القيمةُ، أي: المستقيمة.
وقيل: الكتبُ القَيِّمة؛ لأنها قد تقدَّمَتْ في الذِّكْرِ، قال تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3]، فلَّما أعادها أعادَها مع أل العهديةِ كقوله: {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 16] وهو حسنٌ، قاله محمد بن الأشعت الطالقاني وقرأ عبد الله: {وذلك الدِّين القيمةِ}، والتأنيثُ حينئذٍ: إمَّا على تأويلِ الدٍّين بالمِلة كقوله:
4613سائِلْ بني أسدٍ ما هذه الصَوْتُ

بتأويل الصيحة، وإمَّا على أنها تاءُ المبالغةِ كعَلاَّمة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)}
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ}: كما مَرَّ في أول السورة. وقوله: {في نارِ} هذا هو الخبرُ، و{خالدين} حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}
قوله: {البرية}: قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان {البَريئة} بالهمزِ في الحرفَيْن، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ. واخْتُلِف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصلُ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخلق ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى مَفْعولةٌ، وإنما خُفِّفَتْ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ. وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالبًا تخفيفَ ألفاظٍ منها: النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة.
وقيل: بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا، وهو الترابُ، فهي أصلٌ بنفسِها، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال: وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطًا وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ. انتهى. يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءة الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قرأءتان مُسْتقلَّتان، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ، فقيل: مِنْ بَرَأَ، أي: خلق، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خلقوا مِنْه، والمعنى بالقراءتين شيء واحد، وهو جميعُ الخلق. ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقراء لثبوتِه متواتِرًا.
وقرأ العامَّةُ: {خيرُ البَرِيَّة} مقابلًا لشَرّ. وعامر بن عبد الواحد {خِيارُ} وهو جمع خَيِّر نحو: جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب، قاله الزمخشري.
{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
قوله: {خَالِدِينَ}: حالٌ عاملُه محذوفٌ، أي: دَخَلوها أو أُعْطُوها. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا مِنْ {هم} في {جزاؤهم} لئلا يلزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بأجنبي. على أنَّ بعضَهم أجازه منهم، واعتذروا: بأن المصدرَ هنا غيرُ مقدَّرٍ بحرفٍ مصدري.
قال أبو البقاء: وهو بعيد. وأمَّا {عند} فيجوز أَنْ يكونَ حالًا مِنْ {جزاؤهم}، وأَنْ يكونَ ظرفًا له. و{أبدًا} ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بخالدين.
قوله: {رِّضِىَ الله عَنْهُمْ} يجوزُ أَنْ يكونَ دعاءً مستأنفًا، وأَنْ يكونَ خبرًا ثانيًا، وأَنْ يكونَ حالًا بإضمار {قد} عند مَنْ يلتزمُ ذلك.
قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ}: أي: ذلك المذكورُ مِنْ استقرار الجنةِ مع الخلودِ ورِضا الله عنه لِمَنْ خَشِيَ به. اهـ.